مع تقدم التكنولوجيا وتطور أدوات الذكاء الاصطناعي والثورة التي يُحدثها في مُختلف المجالات يوماً بعد يوم، أصبحتِ الكثير من المهن البشرية مهددة بالزوال، ليحّل مكانها الذكاء الاصطناعي، ولكن تطورت المسألة بشكل أكبر ليُصبح للذكاء الاصطناعي استحواذٌ على عددٍ أكبر من المهن البشرية ليصلَ الأمرُ أحياناً إلى مهنٍ إبداعيةٍ صرّفة، مهنٌ تحتاجُ العقل البشري و لمسته الإبداعية كي تصنع مُنتجاً مُعيناً، من هذه المهن التي باتت مُهددةً بالسيطرة عليها من قِبلِ الذكاء الاصطناعي هي الرسم، الكتابة، التصميم، وغيرها من المهن الإبداعية الأخرى.
ولكن نجدُ هنا سؤالاً إشكالياً يطرحُ نفسه بقوة، هل سيستطيعُ الذكاء الاصطناعي السيطرة على جميع المهن الإبداعية مُستقبلاً واقتحام دائرة الإبداع البشري وتطويقها وتقليص امتدادها؟
تُعدُّ مهنة صناعة العطور إحدى أهم وأقدم وأكثر المهن صعوبةً حول العالم، إذ ثبُتَ عبر الزمن أنها من أكثر المهن التي اعتمدت على الإبداع والجهد البشري الخالص، حيثُ تتمُ صناعتُها على عدة مراحل مُجهدة وغاية في الصعوبة، حيثُ تبدأُ المسألة بفكرة ومن ثُم تتبلور لتبدو ملامحها أكثر نضوجاً ووضوحاً، ومن ثُم يبدأ العطار بإجراء اختباراته وتجاربه المُتعددة والتي ربما تأخذُ شهوراً، وأحياناً سنوات، من مرحلة اختيار العناصر والمكونات العطرية، ومن ثُم مُحاولة تحديد هوية العطر، ولاحقاً إجراء تجارب متعددة وصُنع تغييرات كثيرة في التركيبة حتى يصل العطار إلى الهوية المحددة للعطر الذي يصنعه والرائحة المُعينة التي يبحث عنها.
إن هذه المهنة شديدة التعقيد، هي لا تُشبه أي مهنةٍ أخرى في شكلها أو مضمونها، فهي تعتمد بالضرورة على الإبداع والحسّ البشري الخلّاق والمُتجدد، فالعطّار يعتمدُ دوماً على حدسه وإحساسه وحواسه في صناعة العطور، كأن يحلُم بأن يشتَّمَ أو يخلقَ رائحةً معينة أو رائحةً يُحبها، أو رائحةً تُذكره بأحدٍ ما، إنه مسألةٌ شخصية و وجدانية وحسّية وفنية وإبداعية، قد يقطعُ العطار مسافاتٍ طويلة كي يجد العناصر المناسبة لتركيبة عطره، مسألةٌ جدلية عصية على الزمن والفضاء والمكان، لها طقوسها الخاصة بمُبدعيها.

ولكن يبقى لدينا سؤالٌ هامٌ آخر، هل سيتمكن الذكاء الاصطناعي من الوصول إلى هذه المهنة أيضاً وكَفِّ يدّ الإبداع البشري عنها برغم كل ما ذكرناه من أهمية للعقل والشغف والإبداع البشري فيها؟
ربما على الأرجح سيكون للذكاء الاصطناعي وصول معين إليها، ولكنه لن يتعدى سوى بعض اقتراحاتٍ لتراكيب جديدة للعطور وغالباً أنها ستفشل، كونها لا تتعدى أنها مُجرد نسخٍ عن تراكيب أخرى مُعدلة فقط، فالذكاءُ الاصطناعي ربما إن استطاع أن يبتكر شيئاً جميلاً، فسيبتكرُ زجاجات ذات تصميم أنيق كحد أقصى في مجال العطور، ولن يستطيع الوصول إلى نسبةٍ ضئيلة مما وصل إليه الإبداع البشري في عالم العطور.