لطالما طرحنا على أنفسنا أسئلة إشكالية كبرى، هل نحن ما تأخذنا الحياة إليه، أم نحن ما نُزاحم الحياة من أجل ما نصلُ إليه في النهاية؟
إنها الإرادة التي لا تعرفُ أبواباً موصّدة ولا نوافذ عالية ولا أماكن شاهقة تأخذك في رحلة مع الخوف من القادم والمجهول، هل كان يعلم فرانسوا ديماشي الذي ولدَ في مدينة كان الفرنسية عام 1949 بأنه على موعد مع شغف لا ينطفئ في عالم العطور بعد رحلة طويلة في دراسة طب الأسنان؟
اتجه فرانسوا ديماشي لدراسة العطور وتعلُّم أساسيات وأسرار تركيبها في مدرسة العطور التابعة لشركة شارابو لمدة خمس سنوات بعد أن أنهى دراسته في كلية طب الأسنان، ليبدأ على الفور رحلته المهنية والإبداعية في عالم صناعة العطور الفاخرة لدى العلامة التجارية شانيل ويصقل موهبته ويُطلق شغفه سريعاً ويعمل في ذات الوقت على ابتكار عطور لعلامات تجارية أخرى مثل أنغارو وبورجوا و تيفاني ويُصبح لاحقاً مديراً للتطوير في قسم مستحضرات التجميل والعطور لدى مجموعة LVMH ، ولكن سُرعان ما عاد إلى شغفه في ابتكار العطور ليبدأ رحلته من جديد ويكون العطار الرئيسي لدى العلامة التجارية الفرنسية ديور.

عمل ديماشي على إعادة رسم وتشكيل ملامح العطور الفرنسية من جديد بشكل كلاسيكي وتقليدي لا يخلو من لمسة وهوية إبداعية عصرية متميزة و واضحة، إذ يُعد من العطارين الذين يميلون إلى الحدّة و الشراسة والوحشية في بعض الأحيان، إذ يُطلقُ هذا الرجل العنان لمُخيلته ويجمحُ للخيال في كل مرة يصنعُ بها عطراً كأنه يرسمُ لوحة فنية ويُريدها أن تبدو الأكثر جمالاً على هذه الأرض، نرى الحمضيات تسيطر بالمجمل على افتتاحيات عطوره وكأنه يرى بأن العطر الذي لا يدخل بقوة ويقتحم ذاكرة الناس بوحشية ويأخذ مكانه فيها عنوةً لا يُمكن إلا أن يكون عطراً عادياً جداً لا مكان له في الذاكرة.
يتحدثُ فرانسوا ديماشي عن ذكرياته بأنها عبارة عن حقولٍ واسعة من الورود والياسمين وتلال صغيرة مُغطاة بالنباتات، وعن وصفه لتجربته الخاصة في عالم العطور، يقول بأنها حالة من الشغف التي تخلق أيضاً حالة عشق مع مهنتك وتُجبرك على أن تعمل بحب وصبر، فهذه الأشياء هي نواة الإبداع وأساسياته، فلا ينبغي عليك كعطّار أن تبحثَ عن العناصر النادرة لجمالها ونُدرّتها فقط، يجبُ أن تبحثَ عن تاريخها أيضاً، لأنك تبتكرُ أشياء سيحفظها التاريخ من بعدك فكن حذراً جداً، ولا يجبُ أن تكون مسألة اختيار مكونات عطرك متعلقة بها فقط، فهذه ليست مسألة عادية أو بسيطة، بل هو أمرٌ متعلق بما ترغبُ أن تشعر به أثناء هطول المطر وما ترغبُ أن تلمسه أثناء معانقة أشعة الشمس الدافئة لأصابعك وأن تؤمن تماماً بأن نوعية وشكل الأحاسيس كفيلة أن تخلق الروائح، وروعة وجمال الروائح هي التي تحرك الأحاسيس وأن الطبيعة هي المصدر الأول والأقوى لكل ما تراه من سحر العطور وفخامتها والندرّة جزء هام من التميز، فإن استطعت الحصول على ما هو نادر، تأكد حينها بأنك تستطيع ابتكار كل ما هو مميز لأن أساس الجودة العالية هي الصعوبة.
يعتقد الناس بأنك عندما تلمس الورود، فإنك تحولها إلى عطر، لكن الحقيقة أنه من الضروري جداً أن تذهب مع ورودك و مكونات عطورك في رحلة وتكتشفها جيداً وأن تسمح لها أيضاً باكتشاف ما تُريد أنت، ويرى ديماشي بأن الثقافة العطرية مُتبدلة ومتغيرة الصيّغ والأشكال باستمرار كأي شيءٍ يمرُ الزمن فوقه ولهذا فالمُرونة والتطور مطلوبان دائماً في هذه المهنة.
أثرى فرانسوا ديماشي عالم العطور والموضة بعدد كبير من إبداعاته العطرية ولم يقتصر الأمر على شركة ديور، وفي رصيده الآن حوالي 207 عطور من تصميمه وحده، ومنها عطور أخرى بالشراكة مع مصممين آخرين لعدة شركات عالمية مثل ديور وجيفنشي و أكوا دي بارما وتيفاني وفنّدي وغيرها الكثير، ومن الجدير بالذكر بأنه قد تم إنتاج فيلم وثائقي عن فرانسوا ديماشي عام 2021 بعنوان NOSE من إخراج كليمان بوفيس.